خواطرُ عابرة حول موضوع استغلال منجم الفوسفات في بوفلْ .. / محمدن ولد سيد الملقب بدنَّ

اثنين, 10/21/2024 - 10:40

صادفتُ في حياتي ثلاثة خبراء موريتانيين مرموقين في مجال الفوسفات الموريتاني وهم : معالي الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية الحالي أخونا السيد مولاي ولد محمد لغظف وقد أنجز ضمن فريق من الخبراء الدوليين لصالح الأمم المتحدة أهمّ دراسة حول منجم بوفلْ تقع في عدة مجلداتٍ ضخمة و المهندس الحسين ولد جدُّ وقد شارك في إنجاز بعض الدراسات العلمية حول الفوسفات إلى جانب خبراء دوليين في الفترة ما ( 1974 - 1983) وتقلّد بعض المسؤوليات السامية في إطار محاولات رسمية متعددة لاستغلاله و الاستاذ عبد الله بن أحمد باب الاداري المدير العام الحالي للشركة الموريتانية السعودية للفوسفات وقد زاوج هو الآخر بين الدراسات العلمية المتعلقة بتطويره والتجربة الميدانية الرامية إلى استغلاله.

كل هؤلاء يُجمعون على أن أهمية منجم الفوسفات في الجنوب تكاد تضاهي أهمية منجم الحديد في الشمال .

وبخصوص موضوع الساعة أشارك فأقول : حُقّ للذين ينظرون منّا إلى الشراكة الموريتانية الهندية المنعقدة بمناسبة زيارة الرئيسة الهندية لموريتانيا يوم الأربعاء 15 اكتوبر 2024م حول استغلال وتطوير منجم الفوسفات من زاوية وحيدة هي ذلك الأمل المحمود الذي تفتحه من أجل قضاء ديون الشيخ علي الرضا الصعيدي " ! ذلك أنه من المُنتظر أن يتم تسديد تلك الديون من ريْع نسبة الخمسة وأربعين (45) في المائة من رأس مال الشركة المالكة لرخصة استغلال المنجم وهي النسبة التي كان يمتلكها الشيخ و احتجزتها المحكمة التجارية في إطار تصفية مكتبه التجاري .

وابتداءً من ذلك تاريخ أصبح تسيير تلك الأسهم من صميم صلاحيات المحكمة التجارية (القاضي المنتدب ) بواسطة لجنة التصفية الممثلة بعضوٍ منها في مجلس إدارة الشركة الموريتانية السعودية للفوسفات خاصة أن تلك النسبة هي الحصة الأكبر من المساهمات.وتعضد تلك النسبةَ (تحت وصاية وزارة العدل) حصةُ الدولة الموريتانية (تحت وصاية الوزارة المكلفة بالمعادن ) وقدرها 20% وتسيرها طبقا للقانون الوكالة الموريتانية للبحوث الجيولوجية و الأملاك المعدنية (ANARPAM) ولها هي الأخرى ممثلها الخاص في مجلس إدارة الشركة. أما الأسهم الخصوصية الأخرى فتبلغ نسبة 35% (30 + 5).
هذا وللذين يتساءلون عن مصدر لفظ " السعودية " الوارد في تسمية الشركة أقول إن السبب في ذلك هو أن رخصة منجم الفوسفات صدرتْ أصلاً تحت ذلك الإسم لمستثمر مشهور مورياتاني الأصل وجنسيتُة سعودية قبل أن يتنازل عنها لاحقا للشيخ علي الرضا بن محمد ناجي الصعيدي في عهدٍ لا يُتصورُ فيهِ أملٌ لاستغلال منجم الفوسفات نظرا لتدني ثمنه في الأسواق العالمية ( 40 دولار للطن ) و ارتفاع سعر التكلفة بسبب النقل البري من بابابي إلى ميناء انواكشوط المستقل (470 كلم جنوب شرق نواكشوط في منطقة النهر السنغالي).

وأعود فأقول : حُق إذن للذين ينظرون منا إلى هذا الموضوع من زاوية مساهمته بحول الله وقوته في إنهاء ذلك الملف الشائك بما يضمن من وفاء الشيخ عليٍّ الرضا الصعيدي بالتزاماته تجاهَ الدائنين ، ولكنّ الأولى لنا جميعًا أن ننظر إلى موضوع استغلال الفوسفات من زاوية وطنية أرحب هي مبدأ استغلال منجم الفوسفات في حد ذاته . فهو إنجاز عظيم حقا تكللت به جهود حثيثة متواصلة عبر الأجيال والأحقاد بذلتها جميع الحكومات الموريتانية المتعاقبة من عهد الاستعمار الفرنسي حتى اليوم . ولكنّ ما يجب الاعتراف به، ھو أن كل واحد من الرؤساء الموريتانيين المتعاقبين على الحكم قد "وضع لبنةً ما، بحجمٍ ما " في تحقيق ذلك الهدف الوطني المنشود.وفي هذا النطاق سمعتُ معالي الوزير الأول السابق السيِّدْ محمد بن بلال و معالي وزير الداخلية الحالي السيد محمد أحمدْ بن محمد الأمين يتباشران بتدشين المرحلة الأولى من استغلال هذا المنجم بتاريخ 21 يناير 2023م، ويقولان إنهما عهدا الأستاذ المختار بن داداه رحمه الله منذ الصغر قلَّ أن يعرض للإقتصاد الوطنيّ في مناسبة أو بدونِ مناسبة إلاّ وبادر إلى ذكر الجهود المضنية لحكومته من أجل استغلال وادي تامورتْ النعاجْ في تگانتْ ومنجم الفوسفات في بوفلْ"!

قلت: ولا شكَّ أن سكان ولاية لبراكنه عمومًا ، بلْ وجميع المواطنين الموريتانيين لا يزالون يذكرون في هذا الإطار ذلك التعهّد الذي أطلقه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني عشيةَ يوم الثامن يونيو 2019 في مدينة ألاگْ ابان الحملة الرئاسية في المهرجان الجهوي لولاية لبراكنه ، عندما قال :" سأبحث عن الآليات الكفيلة باستغلال مناجم بوفَللْ " . فجاء ذلك التصريح المُفعم بالأمل مؤكداً لما سبق أن أعلنه في برنامجه الانتخابي الأول تعهداتي من أنه "سيعمل على تنويع إنتاج القطاع المعدني من خلال استغلال مناجم : اليورانيوم والفوسْفات و المناجم غير المعدنية "!

وتنفيذا لتلك التعهدات شهدت المأمورية الأولى لفخامة رئيس الجمهورية (2019 - 2024) انطلاق المرحلة الأولى من استغلال منجم الفوسفات بإشراف الأمين العام لوزارة البترول والمعادن والطاقة السيد أحمد سالم ولد بوهدَّه محاطا بكبار معاونيه وبحضور السيد الوالي المساعد لولاية لبراكنه و العديد من السلطات الادارية والأمنية في الولاية.وقد اضطلعتْ بتنفيذ تلك المرحلة التمهيدية شركةٌ موريتانية هي "شركة النصر لصناعة وخدمات التعدين" في إطار عقد شراكة مع الشركة الموريتانية السعودية للفوسفات.وفي إطار تنفيذ ذلك العقد استطاعت شركة النصر أن تستجيب لجميع الالتزامات التعاقدية ومنها :

⁃ تأهيل وصيانة وإنشاء طريق يربط بين المنجم والطريق الرئيسي N3 بطول 25 كيلومتراً؛
- استكمال طرق المناجم الداخلية؛
- إعادة تأهيل وصيانة المساكن والمكاتب.
- حفرُ عدة آبار ارتوازية لتوفير المياه اللازمة للمرحلة التمهيدية؛
- تحديث تقييم الأثر البيئي والاجتماعي المحتمل للمشروع طبقا للقانون ؛
- تحديث دراسات المشروع ؛
- توقيع عقود مع عدة شركات مقاولات للقيام بأعمال الاستخراج والمعالجة والنقل وحققت في هذا الإطار الإنجازات التالية:
- شراء معدات مراقبة الجودة.
- اقتناءُ وحدات الإنتاج للمرحلة التمهيدية وصلتْ بالفعل إلى مكان المنجم ( مصنع و مختبر ).
- إعداد آلات ومعدات التعدين.

ويجدر التنبيهُ هنا إلى أن هذه الشركة تعتبر أنها اليوم على أهبة الاستعداد التام للوفاء بالتزامها بتصدير أول شحنة من الفوسفات الموريتاني إلى الخارج بمناسبة 28 نوفمبر 2024 م المقبل .
ذلك إذن ما تحقق إبّان المأمورية الأولى لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ، وفي مستهل المأمورية الجارية تجدد اهتمام الحكومة بمنجم الفوسفات إذ جاء في خطاب معالي الوزير الأول المختار ولد اجاي أمام البرلمان المتضمن برنامج حكومته بتاريخ 4 سبتمبر 2024 في إطار كلامه عن محور البنى التحتية الطرُقية العصرية : " كما ستضع الحكومة على رأس أولوياتها إجراء دراسة الجدوائية لسكك حديدية تربط بلادنا بالأسواق المجاورة وتحل مشكلة نقل بعض المناجم المكتشفة إلى موانئ التصدير كالفوسفات في لبراكنة والحديد في إينشيري".

وفي إطار ما ورد في موضع آخر من برنامج الحكومة بخصوص " تشجيع الإستثمار ودعم ومواكبة قطاعنا الخاص ليتمكن من لعب الدور المنوط به كمحرك رئيس لخلق الثروة والنمو" يتنزل بجدارة عقدُ الشراكة الموقع يوم 16 اكتوبر 2024 بين الشركة الموريتانية السعودية للفوسفات ممثلةً من قبل الإداري المدير العام السيد عبد الله أحمدْ بابَ وشركة “أتلانتك مِينِرَالْزْ” الهندية ممثلةً من قبل مستثمرين هنود وذلك بهدف استغلال وتطوير “منجم بوفال لُبَيْرِ” بولاية لبراكنه جنوب موريتانيا.

أما الأهمية الوطنية لهذ المنجم فقد أوضحتها الوزارة الوصية في بيان لها سابق أصدرته بمناسبة انطلاق المرحلة الأولى المذكورة من الاستغلال. جاء في ذلك البيان " إن التقديرات الأولية تشير إلى أن هذا المنجم يحتوي على احتياطي يقدر بـ 166 مليون طن من الفوسفات الخام قابلة للزيادة حسب التقييم، وهو ما يمكِّن من ضمان توفير مصادر للتشغيل على مدى ثلاثة عقود".وتوقعت الوزارة في ذلك البيان "أنْ يساهم إطلاق مشروع مناجم "بوفال - الذي يكتسي طابعا استراتيجيا وحيويا - في توفير إيرادات جديدة للاقتصاد الوطني". ويمتد هذا المنجم على نحو 48 ألف كلم مربع في مساحة إجمالية قدرها 945 كلم مربع سيتم استغلالها مع احتياطيات تقدر بنحو مائة مليون طن.ويُستخدم الفوسفات في صناعة الأسمدة كمكمل حيوي لتحسين نوعية التربة وزيادة الإنتاج وتحسين نوعية المحاصيل.
هذا ولا يخفى ما لإبرام هذا الاتفاق من أهمية لدى الشريك الهندي تتجسد جليا في العوامل الثلاثة التالية :

أولا- إبرام الإتفاق في إطار زيارة العمل والصداقة التي أدتها الرئيسة الهندية السيدة دروبادي مورمو إلى بلادنا في إطار جولتها الافريقية ، بعد أن جرى التمهيد له ابان زيارة نائب وزير الخارجية الهندي السيد دامو رافي إلى انواكشوط بتاريخ 21 مارس 2024 م واستقباله من قبل فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني .

ثانيا : حضور حفل التوقيع من قبل السيديْن : المدير العام المكلف بقطاع شمال ووسط إفريقيا بوزارة الخارجية الهندية السيد سافالا نايك مودي، وسعادة السفير الهندي المعتمد في موريتانيا السيد ناريش كومار.

ثانيًا- الإشادة بهذا الاتفاق في إطار المؤتمر الصحفي المنظم في ملاوي آخر محطات الجولة الافريقية من قبل السيد أرون كومار، سكرتير دائرة الجوازات والتأشيرات والشؤون القنصلية بوزارة الخارجية الهندية وذلك بحضور السيدة نافيكا غوبتا نائبة السكرتير الصحفي لرئيسة الهند.

وأختم بإعطاء نبذة تاريخية مقتضبة عن منجم الفوسفات والجهود الحكومية المتلاحقة من أجل استغلاله.

يدخل منجم الفوسفات في صميم الحوض العملاق المشترك بين أربع دول هي : موريتانيا وغامبيا وغينيا بيساو وهو الذي يمتد على فضاء يُقدر ب 340 ألف كلم مربع من الجنوب نحو الشمال.وقد تم اكتشاف هذا المنجم في موريتانيا منذ 1910 على طول الضفة الشمالية لنهر السنغال حيث عرفت منطقة بوفل- لبيره آنذاك سلسلة من التنقيبات .

ففي الفترة من 1962 إلى 1974 نشر مكتب الدراسات الجيولوجية والمعدنية الفرنسي المشهور (BRGM) خرائط جيولوجية بحجم معين لمدينة الدويره وكيهيدي تتضمن توضيحا للطبيعة الجيولوجية العامة للمنطقة ولكن المعلومات التي كشفها عن منجم الفوسفات في المنطقة كانت شحيحة..

وفي الفترة من 1973 ـ 1984 أنشأت الدولة الموريتانية مجموعة رباعيةً تضمُّ شركات: SNIM وBRGMو GEOMIN و SSPT للتنقيب عن الفوسفات في منطقة تقع بين گورگول ولبراكنه أسفر عن اكتشاف احتياطيّ يُقدر ب 100 مليون طن.

وفي الفترة من 2010 ـ 2012 أنشئت مؤسسة مختلطة بين مجموعة هندية والحكومة الموريتانية لاستغلال الفوسفات في منطقة بوفل - لبيرة باسم BIMC كان عليها أن تنتج مليون طن سنويا وأن تنشئ مصنعا لإنتاج حمض الفوسفوريك في أفق سنة2013.وقد بدأت المجموعة بأشغال تمهيدية من ضمنها بناء مكاتب ومساكن قبل أن تتوقف عن العمل لتعذر استغلال المنجم لأسباب موضوعية أهمها ارتفاع سعر التكلفة نظرًا لتدنِّي سعر الفوسفات في الأسواق العالمية وارتفاع كلفة نقله بالشاحنات إلى ميناء انواكشوط المستقل من حيث يتم التصدير.

والواقع أن ارتفاع كلفة النقل بالطريق البري ظل يشكل عائقا كبيرا أمام استغلال هذا المنجم.. ولذلك أجمعت جميعُ الدراسات على أن استغلال هذا المنجم لن يكون ذا جدوى اقتصادي ما لم ينقل بواسطة سكة حديدية من موقع المنجم إلى ميناء انواكشوط.وهكذا أنجزت الدولة جميع الدراسات الفنية الضرورية لهذا المشروع وطفِقت الأحكام المتعاقبةُ تبحث جاهدةً عن تمويل السكة الحديدية المطلوبة، ولكن دون جدوى.

وفي سنة 2017 جاءت الشركة الموريتانية السعودية للفوسفات لتلتحق بالركب فتواصل المحاولات الرامية إلى استغلال هذا المنجم.وقد تعثرت هذه الشركة في بداية عملها كسابقاتها لعوامل موضوعية.
وتشاء الأقدار أن تشهد أسعار الفوسفات في العالم ارتفاعا معتبرا إثرَ جائحة كورونا ، إذ ارتفع ثمنه من 40 دولارا للطن إلى 70 دولاراً سنة 2021. ثم تأتي الحرب بين روسيا وأوكرانيا بعد ذلك ليقفز سعر الفوسفات إلى حدود 400 دولار للطن الواحد. وكذلك بفضل تحسين المناخ الاستثماري في البلاد ، وإنشاء ميناء انچاگو في مقاطعة كرمسيْن مما سيسهل النقل البري و يضيف احتمال النقل النهري الأرخص، تضاعف الطلب فجأةً على الفوسفات الموريتاني وانفتحتْ آفاق جديدة كبيرة أمام الشركة .

ونتيجةً لتضافر تلك العوامل استطاعت الشركة الموريتانية السعودية للفوسفات أن تبدأ استغلال المنجم بصورة فعليا مع شركة النصر كما ذكرنا من قبل و أن تبرم عقد الشراكة الحالي مع الشركة الهندية المذكورة ..
والله وليّ التوفيق..